قرأت سؤالا منشورا على موقع الفيس بوك لأحد الأصدقاء الذين أحترمهم رغم الاختلاف , و كان السؤال :
عن سبب عدم تأثير علي عزت بيجوفيتش رحمه الله في شعبه بنفس قدر تأثيره في مثقفي المسلمين العرب من هواة الثقافة الإسلامية
فأجبت و لكن الأمر لم يتوقف عند الإجابة بل اثار في رأسي معنى أحب أن أطرحه للنقاش :
قلت أن هذا من المستحيل أن يكون لفشل في إدارة الرجل للتسويق لأفكاره , و لكنه بسبب " نخبوية الخطاب و انعزاله عن مخالطة الوحي "
إن رجلا يقود دولة لا يمكن أن يكون سبب فشل انتشار فكره هو فشله الإداري في التسويق لأفكاره , هذا غير مقبول بالمرة , فمن المعلوم أنه كان يستطيع كقائد لدولة - رحمه الله - أن يسخّر من يخوضون عنه معارك نشر الفكر , إن آمنوا به .
لكن السبب الحقيقي في تقديري يكمن في الخطاب النخبوي الفكري , الذي هو خطاب لا يؤثر إلا في شريحة ضئيلة جدا يمكن إهمالها و إهمال تأثيرها من هواة نشوى الرفاهية الذهنية و التنظير . .
لكنه لا يمس عموم المجتمعات الإسلامية , الذين هم قوام الأمة , و الذين بصلاحهم ينصلح حالها .
لذا فإنك لا تكاد تسمع عن بن باديس أو مالك بن نبي و غيرهم كقيادات حقيقية مؤثرة في الأمة ، لأنه تبنوا خطاب يرتدي قفاز ( الأرسطوقراطية الفكرية ) . . و هو قفاز يخشى أصحابه أن يلوثوا لمعان ألفاظه بالكلمات البسيطة العميقة , التي تستطيع أيضا أن تنقل مضومنات أفكارهم و طرحهم , بل و بكفاءة أعلى . . رغم عظمة كثير من أفكارهم .
إن المفكرين الذين نجحوا في تحريك أمم استطاعوا ان يجدوا كلمة سر يفهمها الناس و تمس مشاعرهم , وقدموا بها فلسفاتهم و رؤواهم لعوام الناس . .
فالليبرالية غازلت لفظة شديدة البساطة و هي ( الحرية ) رغم أنها تحمل في طياتها اشد درجات الاستبداد الراسمالي و تحمل في طياتها مبدأ " اللي ما عاهوش ما يلزموش و اللي ما يقدرش ما ياعملش " . . يكفي أن تعرف مثلا أن منظرها الأول و من اتخذه دراويشها ربا لأربابهم هو ( جون لوك ) كان ( نخاسا ) . . ( بائع رقيق ) . . يكتب عن الليبرالية ليلا . . و يبيع الرقيق الأفريقي نهارا . .
لكن الفكرة التي وصلت للناس بسيطة . . و إن كانت خدعة حقيرة . . لكن قوتها في بساطتها . . الحرية
و كذلك الاشتراكية على دمويتها و لا منطقيتها التي لا تقنع إلا المأفونين , نجحت في أن تحرك الجموع البسيطة بكلمات بسيطة " العدالة الاجتماعية " و " حقوق الفقراء " و غيرها حتى اكتشفوا حقيقتها و كربها فانقلبوا عليها إلا هؤلاء المتحجرين الذين يعشقون عطن لأفكار البالية المتعفنة في صفحات كتبها أناس تعفنت أفكارهم مع ذكراهم .
أما في حالة أمة الإسلام , فإن سلطان الفكر على نفوس المسلمين لا يكون إلا بقدر حرارة و فعل الوحي ، و ليس على الفكر الذي تأثر بالوحي ثم حلقل ليسكن في برج عاجي عال. .
لذا رغم هذا السيل من مفكري مايسمى بـ ( مشاريع نهضة ) و ( النخبويين الإسلاميين ) و هم يحملون أفكارا صادقة و مخلصةربما و مبتدئة أحيانا من الوحي , و منهم معاصرين و منهم سابقين أعلام ( إلا أنه لا تكاد ترى لهم تأثيرا , لأنهم أدمنوا أفيون العقول , و هو الخطاب العاري من نصوص الوحي و المستعلي على المفردات اليومية للناس و الذي يُطرِب عشاق الرفاهية الذهنية و التنظير ) .
و هذه الأمة لا تتحرك إلا بخطاب الوحي ثم بسيط بيان ما أشكل على الناس منه بسبب البون النكد بينهم و بين اللغة العربية , فيكون هذا هو الخطاب العميق على بساطته ’ لأنه يعتمد على النابض بحياة نصوص الوحي . .
و هذا هو الفرق بين خطاب سيد قطب رحمه و غفر له , فرغم أخطائه الشديدة أحيانا - وكلنا ذوو خطأ - رحمه الله و غفر له , إلا أنه حاول الانطلاق من الوحي , و جعل كلماته مرتبطة بالوحي ارتباطا واضحا ، فكان شديد التأثير في قطاعات عريضة من المسلمين . . رغم قوة لفظه و جزالته . . غفر الله له ما كان عليه من خطأ . . و تقبل منه ما كان عنده من صواب ؟
وبين خطاب نوابغ مثل مالك بن نبي و عبد الكريم بكار الذين تأثروا بالوحي و لكنهم لم يربطوا افكارهم بالوحي ربطا واضحا و انجرفوا وراء استخدام الأساليب النخبوية بعيدا عن القواعد العريضة .
و ما أروع قول علي بن ابي طالب رحمه الله " حدثوا الناس بما يعرفون , أتريدون أن يكذب الله و رسوله "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق